الاستعمار البريطانيّ وإجهاض الثورة العربيّة الكبرى في فلسطين | فصل

غلاف كتاب «الاستعمار البريطانيّ وإجهاض الثورة العربيّة الكبرى في فلسطين 1936-1939»

 

صدر عن «مركز دراسات الوحدة العربيّة» كتاب «الاستعمار البريطانيّ وإجهاض الثورة العربيّة الكبرى في فلسطين 1936-1939»، للباحث البريطانيّ ماثيو هيوز، وترجمه إلى العربيّة مصعب بشير.

يقدّم الكتاب قراءة تاريخيّة للدور الاستعماريّ البريطانيّ في تأسيس الكيان الصهيونيّ وفي إخماد الثورة العربيّة الكبرى في فلسطين معتمدًا على وثائق بريطانيّة، إسرائيليّة، فلسطينيّة، إضافة إلى مقابلات شفهيّة مع شخصيّات مثل بهجت أبو غربيّة، توثّق الأساليب والممارسات الاستعماريّة البريطانيّة الّتي طُبِّقت لإجهاض الثورة الفلسطينيّة الكبرى، والّتي كان إجهاضُها بحسب قراءة الباحث سلمان أبو ستّة سببًا مباشرًا لإمكانيّة قيام دولة إسرائيل عام 1948.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مقدّمة الكتاب الّتي كتبها أبو ستّة بإذن من الناشر.

 


 

منذ الحرب العالميّة الأولى يناضل الشعب الفلسطينيّ من أجل حرّيّته واستقلاله في بلاده. ولا يزال هذا النضال مستمرًّا بعد مضيّ أكثر من قرن. في المقابل، تحرّرت الدول العربيّة فرادى من حكم الدولة العثمانيّة، لتقع في ربقة الاستعمار البريطانيّ والفرنسيّ، ثم تخرج منه لتؤسّس حكمًا وطنيًّا خلال مراحل عاصفة من النجاح والفشل.

أمّا الشعب الفلسطينيّ فقد نُكب بالمؤامرة البريطانيّة الكبرى للقضاء على فلسطين دولة ووطنًا وشعبًا، وتسليمها للصهيونيّة، الحركة الاستعماريّة الاستيطانيّة الجديدة. بدأت هذه المؤامرة بوعد بلفور المشؤوم في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917، وعد من لا يملك لمن لا يستحقّ في غياب صاحب الحقّ والأرض ومن دون علمه.

 كما هو معلوم، لم يتجاوز عدد اليهود في فلسطين عام 1917 الـ 9 بالمئة من سكّان البلاد، الكثير منهم رعايا عثمانيّون سابقون، ولم تتجاوز ملكيّتهم للأراضي أكثر من 2 بالمئة من مساحة فلسطين بوصفهم مواطنين في بلاد الشام.

في مساء يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر 1917، استولت القوّات البريطانيّة بقيادة أللنبي على بئر السبع في هجوم مفاجئ من الشرق. وبذلك فتحت لها أبواب فلسطين. أرسل أللنبي برقيّة إلى لندن في 1 تشرين الثاني/نوفمبر قائلًا: «لقد أخذنا بئر السبع. ستكون القدس هديّة عيد الميلاد لكم». وعندها أعلن بلفور إعلانه المشؤوم في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917.

لم يتجاوز عدد اليهود في فلسطين عام 1917 الـ 9 بالمئة من سكّان البلاد، الكثير منهم رعايا عثمانيّون سابقون، ولم تتجاوز ملكيّتهم للأراضي أكثر من 2 بالمئة من مساحة فلسطين بوصفهم مواطنين في بلاد الشام

لم يخجل بلفور من عمله. وقال بوضوح: «إنّنا في فلسطين لا نتجاوب، حتّى بشكل التشاور، مع رغبات [وليس حقوق] السكّان الحاليّين في البلاد». وإذا عدّينا هذا بيانًا سياسيًّا يمكن نقضه، فإنّ الإجراءات البريطانيّة اللاحقة في فلسطين هي الّتي وضعت هذه الكلمات موضع التنفيذ.

أوّل إجراء عمليّ كان اختيار وزير بريطانيّ صهيونيّ، هو هربرت صموئيل، أوّل مفوّض سام لفلسطين. وفي مدّة ولايته (1920-1925)، أسّس إسرائيل المستقبليّة. لقد أصدر صموئيل عشرات القوانين الّتي سهّلت حصول اليهود على الأراضي الفلسطينيّة. منها أيضًا الاعتراف بالعبريّة كلغة رسميّة، وإنشاء مؤسّسات يهوديّة مستقلّة مثل النظام المصرفيّ، ونظام التعليم، و«الاتّحاد العامّ للعمّال» (الهستدروت)، و«الأشغال العامّة» (سوليل بونيه)، و«توليد الطاقة» (روزنبرغ). لكنّ أهمّ القوانين المقصود بها الاستيلاء على فلسطين كانت إنشاء مجلس تشريعيّ يهوديّ منفصل وقوّات مسلّحة يهوديّة منفصلة «الهاغاناه»، الّتي احتلت فلسطين في نهاية المطاف.

وخلال السنوات العشر الّتي تلت حكم هربرت صموئيل، بلغ تدفّق المستوطنين الأوروبيّين اليهود إلى فلسطين ذروته في منتصف الثلاثينيّات. وفي نهاية عام 1936، ارتفع مجموع السكّان اليهود المهاجرين من 9 بالمئة في بداية الولاية إلى 384000 أو 28 بالمئة من مجموع السكّان. احتجّ الفلسطينيّون على ذلك بطبيعة الحال. لذلك جاءت «اللجنة الملكيّة» للورد بيل في عام 1937 للتحقيق. وطالب الفلسطينيّون بما هو حقّ لهم؛ وقف الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، ووقف مبيعات الأراضي لليهود، وانتخاب جمعيّة تشريعيّة. 

رفضت اللجنة الملكيّة كلّ هذه المطالب المحقّة. وفي الملفّات السرّيّة للجنة، الّتي أصبحت متاحة الآن، نجد أكثر التعابير عنصريّة عن الفلسطينيّين، تدلّ على الفكر الاستعماريّ الإنكليزيّ.

وفي الوقت نفسه، قام البريطانيّون بتدريب المستوطنين اليهود الوافدين حديثًا على عمليّات القتال ليلًا «فرقة SNS» الّتي أصبحت نواة «البالماخ» (Palmach)، وأعطوهم أحيانًا الزيّ الرسميّ. لقد أشعل هذا كلّه الثورة العربيّة الفلسطينيّة (1936-1939).

 

سحق الثورة العربيّة الكبرى

قوبلت الثورة بأقصى قدر من الوحشيّة البريطانيّة. قصف سلاح الجوّ الملكيّ البريطانيّ القرى بصورة عشوائيّة. حاصرت القوّات البريطانيّة القرى، وجمعت الرجال في ساحة، وعذّبتهم، ووضعتهم في أقفاص من دون طعام أو شراب لعدّة أيام، ودمّرت إمداداتهم، وأطلقت النار على المزارعين وقتلتهم بحجّة هروبهم، وقتلت الأسرى المستسلمين، وفرضت غرامات على القرويّين بمبالغ تزيد على دخلهم السنوي. وإذا لم يتمكّنوا من الدفع، دمّرت منازلهم وممتلكاتهم وحيواناتهم. نفّذت عقوبة السجن لمدّة طويلة على أيّ شخص يحمل سكينًا. وحلّت الأحزاب السياسيّة ورحّلت قادتهم.

شارك المستوطنون اليهود في جميع هذه الأنشطة وساعدوا فيها. هؤلاء المستوطنون  ـ الّذين سيطلق عليهم فيما بعد الإسرائيليّون ـ نسخوا وشحذوا وحسّنوا هذه الوحشيّة إلى فنّ رفيع، وطبّقوها ضدّ الفلسطينيّين منذ ذلك الحين.

بحلول عام 1939، أصبح المجتمع الفلسطينيّ مدمّرًا، أعزلَ بلا قيادة. لذلك يمكن تسمية عام 1939 عام النكبة الّتي ألحقتها بريطانيا بفلسطين. بعد ذلك بعشر سنوات، نفّذ بن غوريون النكبة الكبرى على يد الصهيونيّة

بلغ عدد القوّات البريطانيّة 25000 ـ 50000 جنديّ بمن فيهم قوّات الطيران والبحريّة. وساندتها الميليشيا اليهوديّة، ولا سيّما 20000 من رجال الشرطة اليهود وحرّاس المستوطنات.

كان التقدير الأدنى للخسائر الفلسطينيّة هو: 5000 قتيل، و15000 جريح، وعدد مماثل من المعتقلين، وأُعْدِمَ أكثر من 100 رجل من القادة. فقد شُنق الشيخ فرحان السعدي البالغ من العمر 80 عامًا أثناء صيامه في رمضان في 22 تشرين الثاني/نوفمبر1937.

من حيث النسبة، جُرح أو سُجن نحو 50 بالمئة من جميع البالغين الذكور، وخصوصًا في المنطقة الجبليّة في فلسطين (الّتي تسمّى اليوم الضفّة الغربيّة) حيث كانت الثورة نشطة بوجه خاص.

وبحلول عام 1939، أصبح المجتمع الفلسطينيّ مدمّرًا، أعزلَ بلا قيادة. لذلك يمكن تسمية عام 1939 عام النكبة الّتي ألحقتها بريطانيا بفلسطين. بعد ذلك بعشر سنوات، نفّذ بن غوريون النكبة الكبرى على يد الصهيونيّة.

في نهاية الحرب العالميّة الثانية، كافأ الصهاينة بريطانيا على دعمها لهم. بدأ الصهاينة حملة إرهابيّة ضدّ بريطانيا نفسها. قصفوا المقرّ الرئيسيّ البريطانيّ، وشنقوا الجنود البريطانيّين واختطفوا القضاة البريطانيّين.

وفي عام 1945، اضطّرت بريطانيا إلى نقل الفرقة السادسة المحمولة جوًّا إلى فلسطين لمكافحة الإرهاب الصهيونيّ. لم يكن هدفها إنقاذ فلسطين وأهلها بل إنقاذ جنودها. بعدها بدأت سلسلة الإرهاب الصهيونيّ الّتي لم تتوقّف.

وفي عام 1948، اغتال الصهاينة الكونت فولك برنادوت، وسيط الأمم المتّحدة المعيَّن لإحلال السلام في فلسطين. في القرار الرقم 57 الصادر عام 1948 وصف مجلس الأمن الدوليّ الجريمة اليهوديّة بأنّها «إرهاب».

وفي الأسابيع الستّة المتبقيّة من الانتداب، هاجم الصهاينة 220 قرية فلسطينيّة ومدنًا رئيسة وهجّروا سكّانها. لقد فشل البريطانيّون في حماية الفلسطينيّين من الغزو الصهيونيّ ومن عشرات المجازر الّتي وقعت تحت سمع البريطانيّين وبصرهم. كانت دير ياسين الأكثر شهرة بينها. كان رئيس الشرطة البريطانيّة في القدس على بعد بضعة كيلومترات من دير ياسين، لكنّه لم يفعل شيئًا. كذلك ساعد البريطانيّون على طرد الفلسطينيّين من طبريّة، ورتّبوا الحافلات لنقل السكّان المطرودين. كذلك في عمليّة الإجلاء الواسعة للسكّان الفلسطينيّين في حيفا، لم تدافع القوّات البريطانيّة عن السكّان، بل ساعدتهم على المغادرَّة.

 

في أهمّيّة دراسة الماضي

لذلك، يمكن القول، إنّه لولا قضاء بريطانيا على ثورة 1936، لما أمكن قيام دولة إسرائيل بهذه السهولة عام 1948. ربّما نجح الصهاينة في إنشاء دولة دون ذلك، ولكنّها ربما كانت ستأخذ وقتًا أطول، وحروبًا أكثر، وقد تنتهي بمساحة أقلّ كثيرًا ممّا انتهى إليه الأمر، لا تتجاوز مساحة صغيرة على الساحل الفلسطينيّ ذات حكم ذاتيّ.

من هنا فإن دراسة ثورة 1936-1939، مهمّة جدًّا لحاضر فلسطين ومستقبلها، ليس لمجرّد أنّها خلقت إسرائيل بعد عشر سنوات، بل لأنّ أساليب قمع ثورة 1936 أيضًا هي الآن أساس الممارسات الإسرائيليّة قانونًا وفعلًا وأساليب، بعدما طوّرتها إسرائيل على نحو جذريّ مؤسّسي منظّم. لذلك فإنّ دراسة هذه المرحلة هي أساس لمعرفة الحاضر، والإفادة من الدروس الناتجة منها، سواءً في الممارسات الإسرائيليّة أو في نضال الشعب الفلسطينيّ المستمرّ وقياداته. ذلك بأنّ الوسائل والأساليب الّتي استعملتها بريطانيا لإخضاع السكّان الّتي أفرزت تعاون البعض مع بريطانيا ضدّ شعبهم لا تزال تتكرّر اليوم بالصورة نفسها مع اختلاف اللاعبين.

الوسائل والأساليب الّتي استعملتها بريطانيا لإخضاع السكّان الّتي أفرزت تعاون البعض مع بريطانيا ضدّ شعبهم لا تزال تتكرّر اليوم بالصورة نفسها مع اختلاف اللاعبين

كلمة عن المؤلف، بذل المؤلف ماثيو هيوز (Matthew Hughes)، الأستاذ في «جامعة برونيل»(Brunel)  في «تاريخ العلوم العسكريّة»، جهدًا مميّزًا في دراسته، الّتي بدأت بأطروحة للدكتوراه، والّتي احتوت على مجموعة هائلة من المصادر البريطانيّة الّتي أصبحت متاحة الآن، وأضاف إليها مصادر إسرائيليّة تمكّن من الوصول إليها بالتعاون مع جهات إسرائيليّة. ورغبة في الإحاطة بكلّ جوانب الموضوع، أضاف المؤلّف مراجع فلسطينيّة وعربيّة ومقابلات شفهيّة مع بعض المعاصرين، ومنهم بهجت أبو غربيّة، ولكنّها محدودة وتحتاج إلى المزيد. وعلى وجه العموم، فإنّ مجموع المراجع الّتي استند المؤلّف إليها أكبر كثيرًا من مراجع أيّ كتاب مماثل، وستكون هذه مصدر أطروحات جديدة نأمل للفلسطينيّين الشباب الاستفادة منها، ومعظمها متوافر اليوم في « Military Archives Kings Collage».

ميّزة المؤلّف هيوز أنّه مسجّل للتاريخ (Chronicler)، أكثر منه مؤرّخًا، وإن كان مؤرّخًا فهو يعكس الروح البريطانيّة ولو أنّها مجردة إلى حدّ ما. تسجيل التاريخ ميّزة كبيرة للمؤرّخين الفلسطينيّين الجدد، فهم يستطيعون استنباط فوائد تاريخيّة ومستقبليّة من المصادر نفسها الّتي أدرجها هيوز.

هنا لا بدّ من لفت نظر القارئ العربيّ الكريم، إلى أنّ هذا الكتاب، على الرغم ممّا يحمله من موقف نقديّ، أو حتّى موقف مضادّ، للدور الاستعماريّ البريطانيّ في تأسيس الكيان الاستيطانيّ الصهيونيّ على أرض فلسطين، فإنّ المؤلِّف لم يستطع أن يتفلّت أو يتحرّر من السرديّة الّتي تقدّمها المراجع الّتي اعتمدها حول الثورة العربيّة الكبرى في فلسطين 1936 ـ 1939، وهي في معظمها مراجع تعود للاستعمار البريطانيّ نفسه، والأرشيف العسكريّ البريطانيّ، فضلًا عن الأرشيف الصهيونيّ المركزيّ وأرشيف «الهاغاناه»، ومقابلات مع ضبّاط من «الهاغاناه»، إلى جانب بعض المراجع العربيّة طبعًا. وهي سرديّة تقدّم صورًا مشوّهة عن بعض فصائل الثورة بوصفهم عصابات، وقَتَلى ومجرمين لا أفق سياسيًّا أو وطنيًّا لأعمالهم العسكريّة؛ أو تقدّم صورًا نمطيّة عن انقسامات حكمت الشارع الفلسطينيّ أثناء الثورة لم تخلُ من التعميم. لكن حرصًا من المترجم، مشكورًا، والمركز على نقل مضمون الكتاب إلى العربيّة بكلّ موضوعيّة فقد حافظنا على المصطلحات والتعابير الواردة في النسخة الإنكليزيّة كما هي بغضّ النظر عن الجرعة المعياريّة الّتي تحملها والّتي تعكس إلى حدٍّ بعيد أحيانًا مقاربة المصدر البريطانيّ أو السرديّة الّتي يقدّمها المصدر. لذا اقتضى التنويه.

 

الدروس المستخلصة

لكن على الرغم من كل ذلك، لا بدّ أن نسجّل أنّ هذا الكتاب هو ذو أهميّة بالغة لأوضاعنا الحاليّة، إذ على الرغم من مرور 80 عامًا أو يزيد على ثورة 1936، فإنّ دروسها لا تزال سارية المفعول من حيث الاستيعاب والإفادة.

أوّل هذه الدروس هو سقوط المدرسة التصالحيّة مع العدوّ، ومبدأ استجداء العدوّ للحصول على المطالب الوطنيّة، والاعتماد على «المفاوضة» وحسن نيّات الخصم، وهو ما برّر تكوين فرق أمنيّة تدعمها وتموّلها بريطانيا، لمطاردة الثوّار والقبض عليهم وتسليمهم إلى العدوّ. يكشف المؤلّف بتفصيل كبير وموثّق عن دور «فصائل السلام» الّتي كوّنها فخري النشاشيبي بتمويل ودعم من بريطانيا، لمطاردة الثوّار.

الدرس الثاني هو قوّة العدو (بريطانيا آنذاك ثم الصهيونيّة) وتشكيلاتها العسكريّة والسياسيّة والدعائيّة، مقابل تشتّت القوى الفلسطينيّة وعدم تعاونها، ويقابل ذلك على الجانب الإيجابيّ صمود الشعب الفلسطينيّ وتضحياته اللامتناهية الّتي تغطّي على ضعف التعاون ما بينها، الأمر الّذي يستدعي الحاجة إلى قيادة كفؤة مخلصة.

الدرس الثالث هو سياسة بريطانيا القائمة على تقسيم الشعب الفلسطينيّ إلى طوائف: مسلمين ومسيحيّين ودروز وبدو، وتجنيد كلّ طائفة معهم بصورة مختلفة. وهذا يعني تحويل هويّتهم من كونهم فلسطينيّين بعامّة، إلى طوائف دينيّة، لها مطالب فئويّة ضيّقة لا تتعلّق بالوطن. لقد تعاون بعض هؤلاء مع بريطانيا بحسب هذه التقسيمات. ولا تزال إسرائيل تستعمل التقسيمات عينها، ليس في سياستها ضدّ المقاومة فقط، بل وفي الإحصاءات الرسميّة أيضًا.

الدرس الرابع هو تقسيم الشعب الفلسطينيّ إلى «عصابات» (المقصود الثوّار) في الريف، ومسالمين (أفنديّة) في المدن، وبالطبع فإنّ الّذي يدافع عن الأرض هو من يعيش عليها ومنها. لذلك كانت القرى هي المصدر الأوّل للثوار أفرادًا وجماعات. لذلك لجأت الثورة إلى إعلان الكوفيّة والعقال شعار كلّ فلسطينيّ، وأرغمت الأفنديّة لابسي الطرابيش على اعتمار الكوفيّة كشعار وطنيّ. ومن الجدير بالذكر أنّ المقاومة المسلّحة في السبعينيّات من القرن الماضي، كان وقودها من أهل القرى الّذين فقدوا الوطن بمعنيَيه الفعليّ والمجازيّ.

لولا هذه الكوارث المتوالية في ثلاثينيّات القرن الماضي لما أمكن للصهيونيّة إنشاء مشروعها الاستيطانيّ. بعد تدمير الشعب الفلسطينيّ عام 1939، أصبح المجال مفتوحًا للصهيونيّة

الدرس الخامس هو تجنيد العملاء الضعفاء، هذا الوباء الّذي لا يزال ساريًا إلى اليوم. جنّدت بريطانيا أوّلًا أفرادًا من الأقلّيّات الدينيّة والمجموعات المهمّشة، وقد جاء ذكر أمثلة منها بالتفصيل في الكتاب. كان الحافز الأوّل لتعاونهم هو الاعتقاد بأنّهم ليسوا جزءًا من الشعب الفلسطينيّ، وهذا يعفيهم من النضال الوطنيّ. يضاف إلى فئة العملاء هذه فئة أخرى تعاني العوَز المادّيّ الشديد، فتكسب قليلًا من المال لسدّ العوَز. هذا العوَز هو نتيجة الحصار الاقتصاديّ الخانق الّذي كانت تمارسه بريطانيا. وهو الأمر الّذي يسري الآن في المناطق المحتلّة، بحيث أصبح الهدف هو الحصول على الخبز مقابل الحصول على الوطن.

ثمّ هناك العملاء السياسيّون، أمثال النشاشيبي، الّذي كان يدعو إلى «السلام» مع بريطانيا وينادي بأنّ الكفاح المسلّح ضدّهم عبث بل هو تدمير وتخريب للمجتمع الفلسطينيّ، ويرى أنّ الطريق الأمثل هو التفاوض مع بريطانيا والاعتماد على حسن نيّاتها.

الدرس السادس هو «الحرب الوهميّة»، وهو اختلاق بريطانيا حروبًا بين جماعات الشعب الفلسطينيّ، واتّهام كلّ فريق للآخر بأنّه لا يعمل لمصلحة الوطن. وتكون النتيجة أنّ هذه الجماعات يقاتل بعضها بعضًا وتتناحر، والعدوّ يشجع كلّ فريق على حدة ويستمتع بالنتائج.

الدرس السابع هو الثقة غير المبرّرة في الدعم العربيّ الرسميّ الّذي أدّى إلى نهاية الإضراب عام 1939، اعتمادًا على «حسن نيّات بريطانيا العظمى». لقد كان تآمر بعض الزعماء العرب حاسمًا في إجهاض نتيجة الثورة. ولا يزال الموقف العربيّ الرسميّ هزيلًا، بل أصبح بعضه معاديًا للقضيّة الفلسطينيّة على نحوٍ مستتر أو علنيّ.

الدرس الثامن هو أنّه لولا هذه الكوارث المتوالية في ثلاثينيّات القرن الماضي لما أمكن للصهيونيّة إنشاء مشروعها الاستيطانيّ. بعد تدمير الشعب الفلسطينيّ عام 1939، أصبح المجال مفتوحًا للصهيونيّة. وفي عام 1942 أعلن «المؤتمر الصهيونيّ» في بلتمور مشروع تحويل فلسطين إلى «كومنولث يهوديّ». ووضع بن غوريون أوّل خطّة لاحتلال فلسطين بالكامل فور خروج الإنكليز، وبدأها بإنشاء قسم استخبارات خاصّ يسمّى «ملفّات القرى»، تجمع فيه كلّ المعلومات عن كلّ قرية استعدادًا لاحتلالها، وهو الأمر الّذي تمّ بعد جلاء الإنكليز.

كلّ هذه الدروس لا تزال ماثلة للعيان، وتتكرّر باستمرار. ولو كان لنا إدراك كامل بهذا التاريخ المعاصر لما أمكن لها أن تتكرّر اليوم. وإذا كانت هناك فائدة لنا من هذا الكتاب، فهي بيان أنّ أعداءنا ومخطّطاتهم، ونضالنا ضدّهم، والأخطاء والخطايا فيه، لا تزال مستمرّة إلى يومنا هذا. ومن لا يتعلّم من تاريخه، فهو محكوم عليه بأن يدفع ثمن أخطائه.

لكنّ المستقبل لا يزال بيدنا. الدرس الأخير والمهمّ واضح وجليّ المعالم. وهو أنّ علينا الاعتماد على النفس وتجميع كلّ طاقات الشعب الفلسطينيّ، وهي كثيرة وهائلة، وأنّ على كلّ فرد منّا أن يقوم بدوره، ولا يتقاعس، أو يترك الميدان لآخرين، أو يكتفي باللوم والنقد.

إنّ تجميع الطاقات يحتاج أوّلًا إلى دعم الكيان القانونيّ للشعب الفلسطينيّ؛ وهو انتخاب «مجلس وطنيّ» جديد يمثّل 14 مليون فلسطينيّ، مستفيدًا من الطاقات الشبابيّة الهائلة، ومنظّفًا البيت الفلسطينيّ من كلّ الأخطاء والخطايا السابقة، فيهيئ للجيل الجديد وطنًا يستحقّ كلّ التاريخ النضاليّ الفلسطينيّ، ويستحقّ تحقيق كلّ حقوقه التاريخيّة والقانونيّة فيه.

وما ضاع حقّ وراءه مطالب.

 


 

سلمان أبو ستّة

 

 

 

باحث فلسطينيّ من مواليد بئر السبع عام 1937. يُعَدّ من أبرز الأسماء البحثيّة المعنيّة بقضيّة اللّاجئين الفلسطينيّين وحقّ عودتهم. ينصبّ جهده على توثيق تاريخ فلسطين الحديث، وجغرافيّتها، ورسم خرائطها.